فصل: سنة خمس وعشرين وثلاثمائة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكامل في التاريخ (نسخة منقحة)



.ذكر مسير مُعزّ الدولة بن بويه إلى كرمان وما جرى عليه بها:

في هذه السنة سار أبو الحسين أحمد بن بُويه، الملقّب بمُعزّ الدولة، إلى كَرمان.
وسبب ذلك أنّ عماد الدولة بن بويه وأخاه ركن الدولة لّما تمكّنا من بلاد فارس وبلاد الجبل، وبقي أخوهما الأصغر أبو الحسين أحمد بغير ولاية يستبدّ بها، رأيا أن يسيّراه إلى كَرمان، ففعلا ذلك، وسار إلى كَرمان في عسكر ضخم شجعان،؛ فلمّا بلغ السيرجان استولى عليها، وجبى أموالها وأنفقها في عسكره.
وكان إبراهيم بن سيمجور الدواتيُّ يحاصر محمّد بن إلياس بن ألِيسع بقلعة هناك، بعساكر نصر بن أحمد صاحب خُراسان، فلمّا بلغه إقبال معزّ الدولة سار عن كَرمان إلى خُراسان، ونفّس عن محمّد بن إلياس، فتخلّص من القلعة، وسار إلى مدينة بَمّ، وهي على طرف المفازة بين كَرمان وسِجشسْتان، فسار إليه أحمد بن بويه، فرحل من مكانه إلى سِجِسْتان بغير قتال، فستار أحمد إلى جِيرَفْت، وهي قصبة كَرمان، واستخلف على بَمّ بعض أصحابه.
فلمّا قارب جِيرفت أتاه رسول عليّ بن الزنجيّ المعروف بعليّ كلويه، وهو رئيس القُفْص، والبَلُوص، وكان هو وأسلافه متغلّبين على تلك الناحية، إلاّ أنّهم يجاملون كلّ سلطان يرد البلاد، ويطيعونه، ويحملون إليه مالاً معلوماً ولا يطأون بساطه، فبذل لابن بويه ذلك المال، فامتنع أحمد من قبوله إلاّ بعد جِيرَفت، فتأخّر عليُّ بن كلويه نحو عشرة فراسخ، ونزل بمكان صعب المسلك، ودخل أحمد بن بويه جِيرَفت واصطلح هو وعليّ، وأخذ رهائنه وخطب له.
فلمّا استقرّ الصلح وانفصل الأمر أشار بعض أصحاب ابن بويه عليه بأن يقصد عليّاً ويغدر به، ويسري إليه سرّاً على غفلة، وأطمعه في أمواله، وهوّن عليه أمره بسكونه إلى الصلح، فأصغى الأمير أبو الحسين أحمد إلى ذلك، لحداثة سنّه، وجمع أصحابه وأسرى نحوهم جريدة.
وكان عليّ محترزاً ومَن معه قد وضعوا العيون على ابن بويه، فساعة تحرّك بلغتْه الأخبار، فجمع أصحابه ورتّبهم بمضيق على الطريق، فلمّا اجتاز بهم ابن بويه ثاروا به ليلاً من جوانبه، فقتلوا في أصحابه، وأسروا، ولم يُفلت منهم إلاّ اليسير، ووقعت بالأمير أبي الحسين ضربات كثيرة، ووقعت ضربة منها في يده اليسرى فقطعتها من نصف الذراع، وأصاب يده اليمنى ضربة أخرى سقط منها بعض أصابعه، وسقط مثخناً بالجراح بين القتلى، وبلغ الخبر بذلك إلى جِيرَفت فهرب كلّ من كان بها من أصحابه.
ولّما أصبح عليّ كلويه تتّبع القتلى، فرأى الأمير أبا الحسين قد أشرف على التلف، فحمله إلى جِيرَفت، وأحضر له الأطباء، وبالغ في علاجه، واعتذر إليه، وأنفذ رسله يعتذر إلى أخيه عماد الدولة بن بويه، ويعرّفه غدر أخيه، ويبذل من نفسه الطاعة، فأجابه عماد الدولة إلى ما بذله، واستقرّ بينهما الصلح، وأطلق عليّ كلّ مَن عنده من الأسرى وأحسن إليهم.
ووصل الخبر إلى محمّد بن إلياس بما جرى على أحمد بن بويه، فسار من سِجِستان إلى البلد المعروف بجنّابة، فتوجّه إليه ابن بويه، وواقعه ودامت الحرب بينهما عدّة أيّام، فانهزم ابن إلياس، وعاد أحمد بن بويه ظافراً، وسار نحو عليّ كلويه لينتقم منه، فلمّا قاربه أسرى إليه في أصحابه الرجّالة، فكبسوا عسكره ليلاً في ليلة شديدة المطر، فأثّروا فيهم وقتلوا ونهبوا وعادوا، وبقي ابن بويه باقي ليلته؛ فلمّا أصبح سار نحوهم، فقتل منهم عدداً كثيراً، وانهزم عليّ كلويه.
وكتب ابن بويه إلى أخيه عماد الدولة بما جرى له معه ومع ابن إلياس وهزيمته، فأجابه أخوه يأمره بالوقوف بمكانه ولا يتجاوزه، وأنفذ إليه قائداً من قوّاده يأمره بالعود إليه إلى فارس، ويُلزمه بذلك، فعاد إلى أخيه، وأقام عنده بإصطَخْر إلى أن قصدهم أبو عبدالله البريديُّ منهزماً من ابن رائق وبجكم، فأطمع عماد الدولة في العراق، وسهّل عليه ملكه، فسيّر معه أخاه معزّ الدولة أبا الحسين، على ما نذكره سنة ستّ وعشرين وثلاثمائة.

.ذكر استيلاء ما كان على جُرجان:

وفي هذه السنة استولى ما كان بن كالي على جُرجان.
وسبب ذلك أنّنا ذكرنا أوّلاً ما كان لّما عاد من جرجان أقام بنَيسابور، وأقام بانجين بجُرجان، فلمّا كان بعد ذلك خرج بانجين يلعب بالكرة، فسقط عن دابّته فوقع ميّتاً.
وبلغ خبره ما كان بن كالي، وهو بنَيسابور، وكان قد استوحش من عارض جيش خراسان، فاحتجّ على محمّد بن المظفّر صاحب الجيش بخراسان بأنّ بعض أصحابه قد هرب منه، وأنّه قد يخرج في طلبه، فأذن له في ذلك، وسار عن نَيسابور إلى أسفرايين، فأنفذ جماعة من عسكره إلى جُرجان واستولوا عليها، فأظهر العصيان على محمّد بن المظفَّر، وسار من أسفرايين إلى نَيسابور، مغافصةً، وبها محمّد بن المظفّر، فخذل محمّداً أصحابُه ولم يعاونوه، وكان في قلّة من العسكر غير مستعدّ له، فسار نحو سَرْخَس، وعاد ما كان من نَيسابور خوفاً من اجتماع العساكر عليه، وكان ذلك في شهر رمضان سنة أربع وعشرين وثلاثمائة.

.ذكر وزراة الفضل بن جعفر للخليفة:

وفيها كتب ابن رائق كتاباً عن الراضي إلى أبي الفتح الفضل بن جعفر بن الفُرات يستدعيه ليجعله وزيراً، وكان يتولّى الخراج بمصر والشام؛ وظنّ ابن رائق أنّه إذا استوزره جبى له أموال الشام ومصر، فقدم إلى بغداد، ونفذت له الخلع قبل وصوله، فلقيته بهَيْت، فلبسها ودخل بغداد، وتولّى وزراة الخليفة ووزارة ابن رائق جميعاً.

.ذكر عدّة حوادث:

في هذه السنة قلّد الراضي محمّدَ بن طُغْج أعمال مصر مضافاً إلى ما بيده من الشام، وعزل أحمد بن كَيْغَلَغ عن مصر.
وفيها انخسف القمر جميعه ليلة الجمعة لأربع عشرة خلت من ربيع الأوّل، وانخسف جميعه أيضاً لأربع عشرة خلت من شوّال.
وفيها قُبض على أبي عبدالله بن عبدوس الجهشياريّ، وصودر على مائتَيْ ألف دينار.
وفيها وُلد عضد الدولة أبو شجاع فنّاخَسرُو بن ركن الدولة أبي عليّ الحسن بن بويه بأصبهان.
وفيها توفّي أحمد بن جعفر بن موسى بن يحيى بن خالد بن برمك، المعروف بجحظه، وله شِعر مطبوع، وكان عارفاً بفنون شتّى من العلوم.
وفيها توفّي أبو بكر أحمد بن موسى بن العبّاس بن مجاهد في شعبان، وكان إماماً في معرفة القراءات؛ وعبد الله بن أحمد بن محمّد بن المغلِّس أبو الحسن الفقيه الظاهريُّ، صاحب التصانيف المشهورة.
وفيها توفّي عبدالله بن محمّد بن زياد بن واصل أبو بكر النَّيسابوريُّ الفقيه الشافعيُّ في ربيع الأوّل، وكان مولده سنة ثمان وثلاثين ومائتين، وكان قد جالس الربيع بن سليمان والمزنيَّ ويونس بن عبد الأعلى أصحاب الشافعيّ، وكان إماماً. ثم دخلت:

.سنة خمس وعشرين وثلاثمائة:

.ذكر مسير الراضي بالله إلى حرب البريديّ:

في هذه السنة أشار محمّد بن رائق على الراضي بالله بالانحدار معه إلى واسط ليقرب من الأهواز، ويراسل أبا عبدالله بن البريديّ، فإن أجاب إلى ما يطلب منه، وإلاّ قرّب قصده عليه، فأجاب الراضي إلى ذلك، وانحدر أوّل المحرّم، فخالف الحجريّة وقالوا: هذه حيلة علينا ليعمل بنا مثل ما عمل بالساجيّة؛ فلم يلتفت ابن رائق إليهم، وانحدر، وتبعه بعضهم، ثمّ انحدروا بعده، فلمّا صاروا بواسط اعترضهم ابن رائق، فأسقط أكثرهم، فاضطروا وثاروا، فقاتلهم قتالاً شديداً، فانهزم الحجريّة، وقتل منهم جماعة.
ولّما وصل المنهزمون إلى بغداد ركب لؤلؤ صاحب الشُّرطة ببغداد ولقيهم، فأوقع بهم، فاستتروا، فنُهبت دورهم، وقُبضت أموالهم وأملاكهم، وقُطعت أرزاقهم.
فلّما فرغ منهم ابن رائق قتل من كان اعتقله من الساجيّة سوى صافي الخازن، وهارون بن موسى، فلّما فرغ أخرج مضاربه ومضار الراضي نحو الأهواز لإجلاء ابن البريديّ عنها، فأرسل إليه في معنى تأخير الأموال، وما قد ارتكبه من الاستبداد بها وإفساد الجيوش وتزيين العصيان لهم، إلى غير ذلك من ذكر معايبه، ثم يقول بعد ذلك: وإنّه إن حمل الواجب عليه وسلّم الجند الذين أفسدهم أُقرّ على عمله، وإن أبى قوبل بما استحقّه.
فلمّا سمع الرسالة جدّد ضمان الأهواز، كل سنة بثلاثمائة وستّين ألف دينار، يحمل كلّ شهر بقسطه، وأجاب إلى تسليم الجيش إلى من يؤمر بتسليمهِ إليه مّمن يسير به إلى قتال ابن بوَيْه، إذ كانوا كارهين للعود إلى بغداد لضيق الأموال بها واختلاف الكلمة، فكتب الرسل ذلك إلى ابن رائق، فعرضه على الراضي، وشاور فيه أصحابه، فأشار الحسين بن عليّ النُّوبختيُّ بأن لا يقبل منه ذلك، فإنّه خداع ومكر للقرب منه، ومتى عُدتم عنه لم يقف على ما بذله.
وأشار أبو بكر بن مقابل بإجابته إلى ما التمس من الضمان، وقال: إنّه لا يقوم غيره مقامه، وكان يتعصّب للبريديّ، فسمع قوله وعقد الضمان على البريديّ وعاد هو والراضي إلى بغداد، فدخلاها ثامن صفر.
فأمّا المال فما حمل منه ديناراً واحداً، وأمّا الجيش فإنّ ابن رائق أنفذ جعفر بن ورقاء ليتسلّمه منه وليسير بهم إلى فارس، فلّما وصل إلى الأهواز لقيه ابن البريديّ في الجيش جمعيه، ولّما عاد سار الجيش مع البريديّ إلى داره واستصحب معه جعفراً وقدّم لهم طعاماً كثيراً، فأكلوا وانصرفوا، وأقام جعفر عدّة أيّام.
ثم إنّ جعفراً أمر الجيش فطالبوه بمال يفرّقه فيهم ليتجهّزوا به إلى فارس، فلم يكن معه شيء، فشتموه وتهدّدوه بالقتل، فاستتر منهم ولجأ إلى البريديّ، وقال له البريديُّ: ليس العجب ممّن أرسلك، وإنّما العجب منك كيف جئتَ بغير شيء، فلو أن الجيش مماليك لما ساروا إلاّ بمال ترضيهم به؛ ثم أخرجه ليلاً وقال: انجُ بنفسك؛ فسار إلى بغداد خائباً.
ثم إنّ ابن مقاتل شرع مع ابن رائق في عزل الحسين بن عليّ النوبختيّ وزيره، وأشار عليه بالاعتضاد بالبريديّ، وأن يجعله وزيراً له عوض النوبختيّ، وبذل له ثلاثين ألف دينار، فلم يجبه إلى ذلك، فلم يزل ابن مقاتل يسعى ويجتهد إلى أن أجابه إليه، فكان من أعظم الأسباب في بلوغ ابن مقاتل غرضه أنّ النوبختيّ كان مريضاً، فلّما تحدّث ابن مقاتل مع ابن رائق في عزله امتنع من ذلك، وقال له: عليّ حقّ كثير، هو الذي سعى لي حتّى بلغتُ هذه الرتبة، فلا أبتغي به بديلاً.
فقال ابن مقاتل: فإنّ النوبختيّ مريض لا مطمع في عافيته.
قال له ابن رائق: فإنّ الطبيب قد أعلمني أنّه قد صلح وأكل الدُّرّاج.
فقال: إنّ الطبيب يعلم منزلته منك وأنّه وزير الدولة فلا يلقاك في أمره بما تكره، ولكن أحضر ابن أخي النوبختيّ وصهره عليَّ بن أحمد واسأله عنه سرّاً، فهو يخبرك بحاله.
فقال: أفعل.
وكان النوبختيُّ قد استناب ابن أخيه هذا عند ابن رائق ليقوم بخدمته في مرضه، ثم إنّ مقاتل فارق ابن رائق على هذا، واجتمع بعليّ بن أحمد وقال له: قد قرّرت لك مع الأمير ابن رائق الوزارة، فإذا سألك عن عمّك فأعلمه أنّه على الموت ولا يجيء منه شيء لتتمّ لك الوزارة.
فلّما اجتمع ابن رائق بعليّ بن أحمد سأله عن عمّه، فغشي عليه، ثم لطم برأسه ووجهه وقال: يبقي الله الأمير ويعظّم أجره فيه، فلا يعدّه الأمير إلاّ في الأموات! فاسترجع وحوقل وقال: لو فُدي بجميع ما أملكه لفعلتُ.
فلمّا حضر عنده ابن مقاتل قال له ابن رائق: قد كان الحقّ معك، وقد يئسنا من النوبختيّ فاكتب إلى البريديّ ليرسل من ينوب عنه في وزارتي؛ ففعل وكتب إلى البريديّ بإنفاذ أحمد بن عليّ الكوفيّ لينوب عنه في وزارة ابن رائق، فأنفذه، فاستولى على الأمور، وتمشّى حال البريديّ بذلك، فإنّ النوبختيَّ كان عارفاً به لا يتمشّى معه محاله.
فلّما استولى الكوفّي وابن مقاتل شرعاً في تضمين البصرة من أبي يوسف ابن البريديّ، أخي أبي عبدالله، فامتنع ابن رائق من ذلك، فخدعاه إلى أن أجاب إليه، وكان نائب ابن رائق بالبصرة محمّد بن يزداد، وقد أساس السيرة وظلم أهلها، فلّما ضمنها البريديُّ حضر عنده بالأهواز جماعة من أعيان أهلها، فوعدهم ومنّاهم، وذمّ ابن رائق عندهم بما كان يفعله ابن يزداد، فدعوا له.
ثم أنفذ البريديُّ غلامه إقبالاً في ألفَيْ رجل، وأمرهم بالمقام بحصن مهديّ إلى أن يأمرهم بما يفعلون، فلّما علم ابن يزداد بهم قامت قيامته من ذلك وعلم أنّ البريديَّ يريد التغلّب على البصرة، وإلاّ لو كان يريد التصرّف في ضمانه لكان يكفيه عامل في جماعته.
وأمر البريديُّ بإسقاط بعض ما كان ابن يزداد يأخذه من أهل البصرة، حتّى اطمأنّوا، وقاتلوا معه عسكر ابن رائق، ثم عطف عليهم، فعمل بهم أعمالاً تمدنوا معها أيّام ابن رائق وعدّوها أعياداً.

.ذكر ظهور الوحشة بين ابن رائق والبريديّ والحرب بينهما:

في هذه السنة أيضاً ظهرت الوحشة بين ابن رائق والبريديّ، وكان لذلك عدّة أسباب منها أنّ رائق لّما عاد من واسط إلى بغداد أمر بظهور مَن اختفى من الحجريّين، فظهروا، فاستخدم منهم نحو ألفَيْ رجل، وأمر الباقين بطلب الرزق أين أرادوا، فخرجوا من بغداد، واجتمعوا بطريق خراسان، ثم ساروا إلى أبي عبدالله البريديّ فأكرمهم وأحسن إليهم، وذمّ ابن رائق وعابه، وكتب إلى بغداد يعتذر عن قبولهم، ويقول: إنّني خفتهم، فلهذا قبلتُهم، وجعلهم طريقاً إلى قطع ما استقرّ عليه من المال، وذكر أنّهم اتّفقوا مع الجيش الذي عنده ومنعوه من حمل المال الذي استقرّ عليه، فأنفذ إليه ابن رائق يُلزمه بإبعاد الحجريّة، فاعتذر ولم يفعل.
ومنها أنّ ابن رائق بلغه ما ذمّه به ابن الريديّ عند أهل البصرة، فساءه ذلك، وبلغه مقام إقبال في جيشه بحصن مهديّ، فعظم عليه، واتّهم الكوفيَّ بمحاباة البريديّ، وأراد عزله، فمنعه عنه أبو بكر محمّد بن مقاتل، وكان مقبول القول عند ابن رائق، فأمر الكوفيَّ أن يكتب إلى البريديّ يعاتبه على هذه الأشياء، ويأمره بإعادة عسكره من حصن مهديّ، فكتب إليه في ذلك، فأجاب بأنّ أهل البصرة يُخفون القرامطة، وابن يزداد عاجز عن حمايتهم، وقد تمسّكوا بأصحابي لخوفهم.
وكان أبو طاهر الهجريُّ قد وصل إلى الكوفة في الثالث والعشرين من ربيع الآخر، فخرج ابن رائق في عساكره إلى قصر ابن هُبيرة، وأرسل إلى القُرمُطيّ، فلم يستقرّ بينهم أمر، فعاد القُرمُطيُّ إلى بلده؛ فعاد حينئذ ابن رائق وسار إلى واسط، فبلغ ذلك البريديَّ، فكتب إلى عسكره بحصن مهديّ يأمرهم بدخول البصرة، وقتال مَن منعهم، وأنفذ إليهم جماعة من الحجريّة معونة لهم، فأنفذ ابن يزداد جماعة من عنده ليمنعهم من دخول البصرة، فاقتتلوا بنهر الأمير، فانهزم أصحاب ابن يزداد، فأعادهم، وزاد في عدّتهم كلّ متجنّد بالبصرة، واقتتلوا ثانياً فانهزموا أيضاً.
ودخل إقبال وأصحاب البريديّ البصرة، وانهزم ابن يزداد إلى الكوفة، وقامت القيامة على ابن رائق، وكتب إلى أبي عبدالله البريديّ يتهدّده، ويأمره بإعادة أصحابه من البصرة، فاعتذر ولم يفعل، وكان أهل البصرة في أوّل الأمر يريدون البريديَّ لسوء سيرة ابن يزداد.

.ذكر استيلاء بجكم على الأهواز:

لّما وصل جواب الرسالة من البريديّ إلى ابن رائق بالمغالطة عن إعادة جنده من البصرة، استدعى بدراً الخَرشنيَّ وخلع عليه، وأحضر بجكم أيضاً وخلع عليه، وسيّرهما في جيش، وأمرهم أن يقيموا بالجامدة، فبادر بجكم، ولم يتوقف على بدر ومَن معه، وسار إلى السُّوس.
فبلغ ذلك البريديَّ، فأخرج إليه جيشاً كثيفاً في ثلاثة آفلا مقاتل، ومقدّمهم غلامه محمّد المعروف بالحمّال، فاقتتلوا بظاهر السُّوس، وكان مع بجكم مائتان وسبعون رجلاً من الأتراك، فانهزم أصحاب البريديّ وعادوا إليه، فضرب البريديُّ محمّداً الحمّال وقال: انهزمتَ بثلاثة آلاف من ثلاثمائة؟ فقال له: أنت ظنَنتَ أنّك تحارب ياقوتاً المدبر، قد جاءك خلاف ما عهدتَ؛ فقام إليه وجعل يلكمه بيديه.
ثم رجع عسكره، وأضاف إليهم من لم يشهد الوقعة، فبلغوا ستّة آلاف رجل، وسيّرهم مع الحمّال أيضاً، فالتقوا عند نهر تُستَر، فبادر بجكم فعبر النهر هو وأصحابه، فلّما رآه أصحاب البريديِّ انهزموا من غير حرب، فلّما رآهم أبو عبدالله البريديُّ ركب هو وإخوته ومن يلزمه في السفن، فأخذ معه ما بقي عنده من المال، وهو ثلاثمائة ألف دينار، فغرقت السفينة بهم، فأخرجهم الغوّاصون وقد كادوا يغرقون، وأُخرج بعض المال، وأُخرج باقي المال لبجكم، ووصلوا إلى البصرة، فأقاموا بالأُبُلّة، وأعدّوا المراكب للهرب أن انهزم إقبال.
وسيّر أبو عبدالله البريديُّ غلامه إقبالاً إلى مطارا، وسيّر معه جمعاً من فتيان البصرة، فالتقوا بمطارا مع أصحاب ابن رائق، فانهزمت الرائقيّة، وأُسر منهم جماعة، فأطلقهم البريديُّ، وكتب إلى ابن رائق يستعطفه، وأرسل إليه جماعة من أعيان أهل البصرة، فلم يجبهم، وطلبوا منه أن يحلف لأهل البصرة ليكونوا معه، ويساعدوه، فامتنع وحلف لئن ظفر بها ليحرقنّها، ويقتل كلّ من فيها، فازدادوا بصيرة في قتاله.
واطمأنَّ البريدّيون بعد انهزام عسكر ابن رائق، وأقاموا حينئذ بالبصرة، واستولى بجكم على الأهواز، فلّما بلغ ابن رائق هزيمة أصحابه جهّز جيشاً آخر وسيّره إلى البرّ والماء، فالتقى عسكره الذي على الظهر مع عسكر البريديّ، فانهزم الرائقيّة، وأمّا العسكر الذي في الماء فإنّهم استولوا على الكلاّء، فلمّا رأى ذلك أبو عبدالله البريديُّ ركب في السفن وهرب إلى جزيرة أُوال، وترك أخاه أبا الحسين بالبصرة في عسكر يحميها، فخرج أهل البصرة مع أبي الحسين لدفع عسكر ابن رائق عن الكلاّء، فقاتلوهم حتّى أجلوهم عنه.
فلّما اتصل ذلك بابن رائق سار بنفسه من واسط إلى البصرة على الظهر، وكتب إلى بَجكم ليلحق به، فأتاه فيمن عنده من الجند، فتقدموا وقاتلوا أهل البصرة، فاشتدّ القتال، وحامى أهل البصرة، وشتموا ابن رائق، فلّما رأى بجكم ذلك هاله، وقال لابن رائق: ما الذي عملتَ بهؤلاء القوم حتى أحوجتَهم إلى هذا؟ فقال: والله لا أدري! وعاد ابن رائق وبجكم إلى معسكرهما.
وأمّا أبو عبدالله البريديُّ فأنّه سار من جزيرة أوال إلى عماد الدولة ابن بويه، واستجار به، وأطمعه في العراق، وهوّن عليه أمر الخليفة وإبن رائق، فنفّذ معه أخاه معزّ الدولة على ما نذكره.
فلّما سمع ابن رائق بإقبالهم من فارس إلى الأهواز سيّر بجكم إليها، فامتنع من المسير إلاّ أن يكون إليه الحرب والخراج، فأجابه إلى ذلك وسيّره إليها.
ثم إن جماعة من أصحاب البريديّ قصدوا عسكر ابن رائق ليلاً، فصاحوا في جوانبه، فانهزموا، فلّما رأى ابن رائق ذلك أمر بإحراق سواده وآلاته لئلا يغنمه البريديُّ، وسار إلى الأهواز جريدة، فأشار جماعة على بجكم بالقبض عليه فلم يفعل، وأقام ابن رائق أيّاماً، وعاد إلى واسط، وكان باقي عسكره قد سبقوه إليها.

.ذكر الفتنة بين أهل صقلّية وأمرائهم:

في هذه السنة خالف أهل جُرجنت، وهي من بلاد صِقلّية، على أميرهم سالم بن راشد، وكان استعمله عليهم القائم العلويُّ، صاحب أفريقية، وكان سيئ السيرة في الناس، فأخرجوا عامله عليهم، فسيّر إليهم سالم جيشاً كثيراً من أهل صِقلّية وأفريقية، فاقتتلوا أشدّ قتال، فهزمهم أهل جرجنت، وتبعهم فخرج إليهم سالم، ولقيهم، واشتدّ القتال بينهم وعظم الخطب، فانهزم أهل جرجنت في شعبان.
فلمّا رأى أهل المدينة خلاف أهل جرجنت خرجوا أيضاً على سالم، وخالفوه، وعظم شغبهم عليه، وقاتلوه في ذي القعدة من هذه السنة، فهزمهم، وحصرهم بالمدينة، فأرسل إلى القائم بالمهديّة يعرّفه أنّ أهل صِقلّية قد خرجوا عن طاعته، وخالفوا عليه، ويستمدّه، فأمدّه القائم بجيش، واستعمل عليهم خليل بن إسحاق، فساروا حتّى وصلوا إلى صِقلّية، فرأى خليل من طاعة أهلها ما سرّه، وشكوا إليه مِن ظُلم سالم وجوره، وخرج إليه النساء والصبيان يبكون ويشكون، فرقّ الناس لهم، وبكوا لبكائهم.
وجاء أهل البلاد إلى خليل وأهل جرجنت، فلمّا وصلوا اجتمع بهم سالم، وأعلمهم أنّ القائم قد أرسل خليلاً لينتقم منهم بمن قتلوا من عسكره، فعاودوا الخلاف، فشرع خليل في بناء مدينة على مَرسى المدينة، وحصّنها، ونقض كثيراً من المدينة، وأخذ أبوابها، وسمّاها الخالصة.
ونال الناس شدّة في بناء المدينة، فبلغ ذلك أهل جرجنت، فخافوا، وتحقّق عندهم ما قال لهم سالم، وحصّنوا مدينتهم واستعدّوا للحرب، فسار إليهم خليل في جمادى الأولى سنة ستّ وعشرين وثلاثمائة، وحصرهم، فخرجوا إليه، والتحم القتال، واشتدّ الأمر، وبقي محاصراً لهم ثمانية أشهر لا يخلو يوم من قتال، وجاء الشتاء فرحل عنهم في ذي الحجّة إلى الخالصة فنزلها.
ولّما دخلت سنة سبع وعشرين خالف على خليل جميع القلاع وأهل مَازَر، كلّ ذلك بسعي أهل جرجنت، وبثّوا سراياهم، واستفحل أمرهم، وكاتبوا ملك القُسطنطينيّة يستنجدونه، فأمدّهم بالمراكب فيها الرجال والطعام، فكتب خليل إلى القائم يستنجده، فبعث إليه جيشاً كثيراً، فخرج خليل بمن معه من أهل صِقلّية فحصروا قلعة أبي ثَور، فملكوها وكذلك أيضاً البلّوط ملكوها، وحصروا قلعة أبلاطنوا، وأقاموا عليها حتّى انقضت سنة سبع وعشرين وثلاثمائة.
فلمّا دخلت سنة ثمان وعشرين رحل خليل عن أبلاطنوا، وحصر جرجنت وأطال الحصار، ثم رحل عنها وترك عليها عسكراً يحاصرها، مقدّمهم أبو خلف بن هارون، فدام الحصار إلى سنة تسع وعشرين وثلاثمائة، فسار كثير من أهلها إلى بلاد الروم، وطلب الباقون الأمان، فأمّنهم على أن ينزلوا من القلعة، فلمّا نزلوا غدر بهم وحملهم إلى المدينة.
فلمّا رأى أهل سائر القلاع ذلك أطاعوا، فلمّا عادت البلاد الإسلامية إلى طاعته رحل إلى إفريقية في ذي الحجّة سنة تسع وعشرين وثلاثمائة، وأخذ معه وجوه أهل جرجنت، وجعلهم في مركب، وأمر بنقبه وهو في لّجة البحر فغرقوا.

.ذكر عدّة حوادث:

في هذه السنة خرجت الفرنج إلى بلاد الأندلس التي للمسلمين، فنهبوا وقتلوا وسبوا، ومّمن قُتل من المشهورين جحّاف بن يُمن قاضي بلنسية.
وفيها توفّي عبدالله بن محمّد بن سفيان أبو الحسين الجزّاز النحوي في ربيع الأول، وكان صحب ثعلباً والمُبرد، وله تصانيف في علوم القرآن. ثم دخلت: